حين يتعلّم الإبداع من الآلة: التعاون بين الكاتب والذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب
في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات كما تتسارع النبضات في جسدٍ قلق، يبرز سؤال جديد: هل يمكن للإبداع أن يتعلّم من الآلة؟ وهل يستطيع الكاتب أن يجد في الذكاء الاصطناعي شريكًا، لا منافسًا؟ لقد تجاوزنا مرحلة الخوف من استبدال الإنسان بالآلة، ودخلنا مرحلة أكثر عمقًا، حيث يتعلّم الطرفان من بعضهما، ويتشاركان في صناعة المعنى.
الإبداع في أصله تجربة إنسانية خالصة، تولد من عمق الشعور، ومن الصراع مع الذاكرة والخيال والواقع. الكاتب حين يكتب لا يبحث فقط عن الجمال، بل عن تفسيرٍ للعالم وموطئ قدمٍ داخل الفوضى. هذه القدرة على تحويل الألم إلى فكرة، والفكرة إلى نصّ، هي ما جعل الإبداع أسمى من مجرد مهارة تقنية. وهنا يظهر الحدّ الفاصل بين الإنسان والآلة: فالأولى تخلق لأنها تشعر، والثانية تُنتِج لأنها تتعلّم.
ومع ذلك، أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته المذهلة على محاكاة الإبداع. فهو يحفظ الأساليب، ويحلّل البنى اللغوية، ويستنتج الأنماط الجمالية من ملايين النصوص. لا يكتب لأنه “يريد”، بل لأنه يفهم كيف يكتب الآخرون. وبين هذا “الفهم” وذاك “الوجدان” تتكوّن منطقة تعاون جديدة، لا صراع فيها بل حوار بين العقل البشري والمنطق الحسابي.
في المستقبل القريب، لن يكون الذكاء الاصطناعي بديلًا للكاتب، بل أداةً لتوسيع الخيال. سيعمل الكاتب بوصفه مخرجًا إبداعيًا، يوجّه الآلة نحو نغمة معينة أو إحساس بعينه، لتعيد هي صياغة الاحتمالات، وتقترح زوايا لم يكن الإنسان ليراها وحده. سيصبح الذكاء الاصطناعي مثل مرآة لغوية ضخمة، تعكس للكاتب ما لم ينتبه إليه في كتابته، وتمنحه منظورًا جديدًا على ذاته وأسلوبه.
لكنّ هذا التعاون يثير تساؤلات أخلاقية وفلسفية لا مفرّ منها: لمن تعود ملكية النص؟ وهل يمكن أن يُعتبر أدبًا ما لم ينبع من تجربة إنسانية؟ ربما سنحتاج إلى إعادة تعريف الأدب نفسه، لا بوصفه “ما يكتبه الإنسان”، بل “ما يُحدث أثرًا في الإنسان”، أيًّا كان صانعه. وربما، كما قال أحد الكتّاب، لا تكون الملكية فردية أصلاً، لأن الكتابة ليست فعل امتلاك بل فعل عبور. فهل تكمن أهمية الكتابة في فرديتها أم في معناها؟ فالكاتب، في النهاية، ليس سوى رسولٍ للمعنى، والرسول على قدر ما يعطي فهو يأخذ. إنه لا يخلق من العدم، بل يتلقّى من الحياة شيئًا ثم يعيده إليها في شكلٍ جديد، محمّلًا بالتجربة والدهشة، وكأنه يعبر بين عالمين: عالم الإحساس وعالم اللغة.
وهكذا، حين يتعلّم الإبداع من الآلة، لا يفقد جوهره، بل يكتسب بعدًا جديدًا. فالكاتب يعلّم الذكاء الاصطناعي المعنى، بينما يعلّم الذكاء الاصطناعي الكاتب الاحتمال. ومن هذا التبادل يولد عصر جديد من الكتابة، لا تُقاس فيه الأصالة بماهيّة من كتب، بل بمدى ما لامس النصّ روح القارئ، وما أوقد فيه من أسئلة لا تنطفئ.