هل الإلهام وهم؟
كثيرًا ما نسمع عن لحظات إلهام غير متوقعة، عن فكرة خطرت فجأة فغيّرت مسار حياة أو أطلقت عملًا فنيًا أو اختراعًا علميًا. ولكن، حين نقف قليلًا ونتساءل: هل الإلهام لحظة حقيقية؟ أم مجرد وهم نعلّق عليه عجزنا عن شرح الإبداع؟ هل هو هبة من السماء، أم نتيجة عمل خفي طويل؟
الإلهام ليس مجرد فكرة طارئة، بل لحظة شعورية معقّدة يصعب الإمساك بها. يبدو أحيانًا كأنه يأتي من العدم، من لا مكان، لكنه في الحقيقة لا يولد من فراغ. العقل يختزن تجاربه، أفكاره، شكوكه، ملاحظاته، وحتى مشاعره الخام. كل تلك العناصر تتخمر في اللاوعي لفترة، ثم تظهر فجأة في شكل فكرة واضحة، هذه اللحظة نسميها "الإلهام".
في علم النفس، تُسمى هذه الظاهرة أحيانًا بـ"الحدس الإبداعي" أو "الحضانة العقلية"، وهي الحالة التي ينشغل فيها العقل الباطن بمشكلة دون وعي مباشر منّا. نبتعد عن المسألة ظاهريًا، فننشغل بشيء آخر، ولكن في الأعماق يستمر التفكير، حتى تصل الفكرة بشكل مفاجئ. وهنا يظهر الإلهام، لا كحدث خارق، بل كنتيجة لعملية عقلية مستترة.
ومع ذلك، هناك من يرى في الإلهام شيئًا من الوهم. فالاعتماد المفرط عليه قد يتحوّل إلى حجة للكسل، أو انتظارٍ دائم لشيءٍ قد لا يأتي. بعض الكُتّاب لا يكتبون لأن "الإلهام لم يزرهم"، وبعض الفنانين يتوقفون لأنهم "لا يشعرون به". لكن الإبداع الحقيقي لا ينتظر الإلهام، بل يُبنى بالصبر والتجربة والعمل اليومي. كما قال الرسام بابلو بيكاسو: "الإلهام موجود، لكنه يزور العاملين فقط."
الكتابة، الرسم، التفكير العلمي، وحتى الحلول الإبداعية في الحياة اليومية، كلها لا تعتمد على لحظة عابرة، بل على تدريب الذهن، مرونة التفكير، وجرأة التجريب. لحظة الإلهام إن وُجدت، فهي جائزة في نهاية الطريق، لا بدايته.
وهنا يكمن التوازن: الإلهام ليس وهمًا إذا فهمناه كنتاج داخلي للتجربة والتفكير الطويل، وليس حقيقة سحرية إذا اعتقدنا أنه ينزل على الإنسان فجأة دون مقدمات. هو تفاعل بين اللاوعي والوعي، بين الشعور والمعرفة، بين السؤال الطويل والإجابة التي تأتي بهدوء. قد لا نستطيع استدعاء الإلهام كما نستدعي صديقًا، لكنه يحب أن يزور من يستعد له: من يقرأ، ويلاحظ، ويسأل، ويجرّب، ويخطئ، ويعيد المحاولة. إن الإلهام، في جوهره، لا يسكن الغيب، بل يسكننا.
وفي النهاية، سواء كان الإلهام وهمًا نحتاجه لنمنح الإبداع معنى، أو حقيقة نفسية تنشأ في العقل العميق، فإن الأهم ألا نجعله عذرًا للتوقف. لأن أعظم الأفكار ليست دائمًا من نسج الإلهام، بل من صبر الإنسان.